الأربعاء، 6 مايو 2015

صَّدْى الْرَحْيل.. للشاعر الأديب المبدع / الدكتور عبد الرحيم سنقر



( جريدة الشعر والشعراء)
رئيس التحرير
عبد الحميد الجمال

اضغط أولا : زر تشغيل أغنية أم كلثوم ـ دارت الأيام 

صَّدْى الْرَحْيل

إنَّ قلبي أدمتْهُ الأزمَات، وفكري تشاجرَتْ فيهِ أصداءُ الذكريات، فالوَجْدُ عادَ بلا سلطان، وحكايةُ اللقاءِ الجميلِ بلا عنوان، والدنيا رحلةٌ بلا فرحٍ، روايةٌ بلا بطلٍ، بل ساقيةٌ بلا ماءٍ، وحلمٌ بلا وَسَنٍ، إني كَرِهتُ الأطلالَ وصوتَ الأخبار يناديني، إنِّي كرهتُ الشوارعَ ورؤيةَ الواقع المريرِ تلاحقني.
إنَّ قلبي محمولٌ برفاته، منقولٌ إلى مَقبرة الأحزان، كأنَّ الأملَ قد فَنِيَ، ورائحةَ الخبرِ السعيدِ قد تاهت بين ركامِ النَتَنِ، قد ضاعتْ تبحثُ عن أُذُنٍ تشتمُّها وعن أَنفٍ يبكي عليها، وعن عينٍ اختبأتْ خلفَ ألفِ سورٍ من حديد، وشُهُبُ الخيانةِ تتطايرُ، وبيارقُ الغدرِ تتعالى، أين يمكن أن أكتشفَ الكذبَ، وهو البضاعةُ الوحيدةُ، كيفَ يمكنُ أن أعرفَ النفاقَ، وهو العملةُ اليتيمةُ، كيف آلتِ الأمورُ مرةً أخرى إلى التُّعسِ الشديدِ، أين عنادلُ الفرجِ القريبِ، أين ألفاظُ الرفضِ القاطعِ، أين معاني لحظةِ شجاعةٍ وحقٍّ ساطعٍ.
الآنَ أصبحَ الربيعُ مثلَ الخريفِ، أصبحَ النورُ مثلَ الظلامِ، أصبحَ كلُّ شيءٍ يُباعُ ويُشترَى، فالأخوَّةُ نُخرتْ في عُمقِها، وسقطتْ ورقةُ التوتِ، وماذا بقيَ سوى كلماتٍ شحيحةٍ ضائعةٍ، تبحثُ عن مُستجيرٍ، فتتحولَ الدنيا إلى كوخٍ، ليسَ فيه إلاَّ العقاربُ، إنَّ قلبيَ أصبحَ عرشاً، تتناوبُهُ النكباتُ حيناً، والاغترابُ حيناً، فالوطنُ بلا أمانٍ اغترابٌ، والغربةُ بأمانٍ وطنٌ، بل أوطانٌ.
هل صحيحٌ أنَّ الرحمةَ آلتْ إلى مَن يبتاعونَ أحاسيسَ الناسِ، فهم يختالونَ بقوتهم، والخُيَلاءُ قوةٌ مزيَّفةٌ، يغتالونَ كلَّ شيءٍ نفيسٍ، لأنَّهم اعتادوا ألاَّ يَرَوْا ما يُذكِّرُهم بحقيقتِهم، وأنَّهم قومٌ ملعونونَ، في نَجَسِهم يلعبونَ، ومقابرَهم يحفرونَ، إنَّهم يقتلونَ من النفوسِ بهجتَها، ومن الفطرةِ قيمتَها، ويستبدلونَ الذي هو أدنى بالذي ينتمي إليه الإنسانُ ذو الشعورِ الرقيقِ، والكلمةِ الطيبةِ والمحتدِ الكريمِ.
هل أشكو حالي إلى قلمي، أم إلى أوراقي، أم أشكو قلمي وأوراقي إلى حالي، أم أشكو كلَّ شيءٍ إلى ظلٍ غابَ عن ناظري، وتسلَّل من إحساسي، فأنا غريبٌ يبحثُ عن قريبٍ، وأيُّ قريبٍ ينشلُني لينهشَني، فيقتلَني، فهو قريبٌ، وأنا غريبٌ ... وقد يصيرُ هو غريبٌ، وكلُّنا غرباءُ، تُعسَاءُ، نلملمُ الاستكانةَ، لنصنعَ منها جبلاً، نحفرُ فيه كوخاً، نختبئُ فيه، قل لا يستويان: الاستنامةُ إلى ما يريدونَ وتسويلِهِ، أم الاستقامةُ على سَواءِ ما نُريدُ وسبيلِهِ، ولا يستويان.
إنَّ نفسي الحائرةَ تبحثُ عن مستقرٍّ غيرِ بعيدٍ،تستغيثُ بمَن يقاسمُها همومَها،تستنجدُ بمَن يحملُ شيئاً من أثقالهِا، مَن سيُذكِّرُها أنَّ أصلَ النسيانِ قلةُ العنايةِ والاهتمامِ، وأنَّ أصلَ الظُّلْمِ وَضْعُ الشيءِ في غيرِ محلَّهِ، وأنَّني ظُلمْتُ فظَلمْتُ نفسي، لكنَّها ستشدو ليتعالى صداها، فتتضحَ معالمُ الطريقِ إليكَ يا وطني، لماذا تتوهُ عن قدميَّ خطواتُ السبيلِ إليكَ، أليسَ هناك مَن يُرشدُني إليكَ، أم لأنَّكَ تخلو من ضحكاتِ الأطفالِ، وحفيفِ أوراقِ الشجرِ، يا وطني أليسَ فيكَ وطنٌ أم أنَّكَ قتلتَ الوطنَ، أينَ نسائمُ الشوقِ العليلِ، أينَ ذكرياتُ المساءِ، وقصصُ الجيرانِ، وخلافاتُ الأصدقاءِ. 
إنِّي تائهٌ في طريقي، لماذا أجبروني على هجْرِ وطني، لماذا خلعوا عني ثوبي، لماذا فرضوا عليَّ ثوباً، لا أرتضيهِ لنفسِي، لا تقبلُهُ عاداتي، تأباهُ معتقداتي، بل تأباهُ أنفاسي وأحلامي.
فالآنَ أصبحتُ مهاجراً بلا رغبةٍ، ومسافراً بلا نشوةٍ، تتهاربُ الغَفوَاتُ من عيوني، تخشى موعدَ رُقادي، تتلاحقُ الوساويسُ في ذاكرتي، تتلاطمُ أفكاري، تناديني نفسي، تسألُني بأيِّ أرضٍ يكونُ لحدي، وأَدْمُعِي مُستهلاَّتٌ، تحفرُ أثراً على وجنتيَّ، وعقابٌ منها عظيمٌ، وتأثيمٌ يَتْبَعُهُ تسويغٌ.
جنايةٌ تركُكَ ياوطني، جريمةٌ بُعْدُكَ عني يا وطني، لماذا هجرتَني، لماذا رحلتَ عني..
لِمَ أردْتَ تمزيقَ عزَّتي، لماذا تقاومُ كبريائي، فأنا لن أبكي على مَن يودُّ استلابَ إرادتي، يَوَدُّ تعريتي، يودُّ قتلي، فليسَ بوطنٍ ما ليسَ فيه إلاَّ الذُّلُّ لأبنائِهِ...
ثمَّ أهربُ إلى ما يعزِّيني، إلى ما يُدغدِغُ أحاسيسي، وفجأةً يَجْمُدُ عقلي، وأبكي كطفلٍ شرقيِّ الإحساسِ، هجرتْ خديهِ الضحكات، وطلَّقتْ عينيهِ بهجةُ النظرات.
ثمَّ أَفِيْقُ فجأةً على رنينٍ قادمٍ من بعيدٍ، من حيثُ الهوى يُناديني، من حيثُ الآهاتُ فيه مدفونةٌ، وذكرياتي فيه مسجونةٌ، من وطنِ الأحبابِ، من مكانٍ أَلِفْتُ فيه حتى أعدائي..

فيا أيَّتُها الأيَّاُم أَجيبيني... لِمَن أنا أنتمي ؟ لِمَن يكونُ انتمائي... ؟ لأرضٍ كانَ فيها قَدري، أم لأرضٍ إلى أرذلِ العُمْرِ ردَّتْني، أم لأمٍّ بمحضِ نشوةٍ أَنجبتْني، أم لأمٍّ رعتْني، وربَّتْني، وعلَّمتْني ...

علِّميني أيَّتُها الأيَّامُ، علِّميني قبلَ أن تَفقُدِيني، قبلَ أن يَضيعَ عُمُري الذي يبحثُ عن آمالِكِ، ووجهِكِ الآخَرِ، لا تجعلي –يا أيَّامُ- كلَّ شيءٍ ليلاً، ففيكِ ليلٌ ونهارٌ، ونورٌ وظلامٌ، وذُلٌّ وانتصارٌ، ويأسٌ وإشراقٌ، ويُشرِقُ الأملُ، ويلبسُ قبعةَ الإيابِ، ويعزفُ على أوتارِ الذكرى الهاربةِ ألحانَ اللقاءِ الجميلِ.


د. عبد الرحيم سنقر




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق