الأحد، 8 فبراير 2015

قصيدة (حكم المنية في البرية جار) ..الأديب الشاعر الباحث الكبير / كريم عباس مرزة

قصيدة (حكم المنية في البرية جار) من أروع قصائد الرثاء العربي الموجعة
لأبي الحسن التهامي (قتل 416 هـ ) ، في رثاء ابنه :

كريم مرزة الأسدي  

حكم المنية في البرية جــارِ *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخــــــبرا *** حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعتْ على كدر وأنت تريدهــا *** صفواً من الأقذار والأكدار
ومُكلّفُ الأيام ضـــد طباعهـــــــا *** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
وإذا رجــــوت المستحيل فإنمــــا *** تبني الرجاء على شفيرٍ هار

القصيدة للتهامي أبي الحسن علي بن محمد المقتول بسجنه سرّاً سنة (416 هـ) ، شاعر مشهور قدم إلى مصر مستخفيا و معه كتب من حسان بن مفرج ابن دغفل البدوي يريد بني قرة وهي بلدة في صعيد مصر بالقرب من أسيوط ، فزعم أنه من بني تميم، انكشف أمره اعتقل في خزانة البنود وهو سجن بالقاهرة.فقتل بالسنة المذكورة .

حكم المنية في البرية جارِ *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا *** حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعتْ على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدار
ومُكلّفُ الأيام ضد طباعها ***مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما **تبني الرجاء على شفيرٍ هار
فالعيش نوم والمنية يقظـــة *** والمرء بينهما خيالٌ سار
فاقضوا مآربكم عجالا إنما *** أعماركم سفرٌ من الأســـفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا *** أنْ تُسترد فإنهن عـوار
فالدهر يخدع بالمنى ويغص أن *** هنّا ويهدم ما بنى يبوار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما ***خُلُقُ الزمان عداوة الأحرار
إني وُترتُ بصارم ذي رونـــق *** أعددته لطِلابة الأوتــــــار
والنفس إن رضيت بذلك أوأبت *** منقادة بأزمّـــــةِ المقـــدار
أثني عليه بأثره ولو انــــــه *** لـــــــــــم يغتبط أثنيت بالآثار
يا كوكبا ما كان أقصر عمره *** وكذاك عمر كواكب الأسحار
وهلال أيام مضى لم يستدر *** بدراً ولم يمهل لوقت سرار
عجل الخسوف عليه قبل أوانه *** فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستُل من أترابه ولِداته *** كالمقلة استلت من الأشفار
فكأن قلبي قبره وكأنه *** في طيِّهِ سِرٌّ من الأسرار
إن يعتبط صِغَراً فرب مُقَمّم *** يبدو ضئيل الشخص للنظار
إن الكواكب في علو محلها *** لَتُرى صغاراً وهي غير صغار
وَلدُ المعزَّى بعضُه فإذا مضى *** بعض الفتى فالكل في الآثار
أبكيه ثم أقول معتذرا له ***وُفّقْتَ حين تركتَ ألأمَ دار
جاورتُ أعدائي وجاور ربه *** شتان بين جواره وجواري
أشكو بعادك لي وأنت بموضع * لولا الردى لسمعتَ فيه مزاري
والشرق نحو الغرب أقرب شقة *** من بعد تلك الخمسة الأشبار
هيهات قد علقتك أسباب الردى *** واغتال عمرك قاطع الأعمار
ولقد جريتَ كما جريتُ لغاية *** فبلغتَها وأبوك في المضمار
فإذا نطقتُ فأنت أول منطقي *** وإذا سكتُ فأنت في أضماري
أُخفي من البرحاء نارا مثل ما *** يخفي من النار الزناد الواري
وأُخفّضُ الزفرات وهي صواعق *** وأكفكف العبرات وهي جوار
وشهاب نار الحزن إن طاوعته *** أورى وإن عاصيته متواري
وأكفُّ نيرانَ الأسى ولربما *** غلب التبصر فارتمت بشرار
ثوب الرياء يَشِفُّ عما تحته ***وإذا التحفت به فإنك عار
قصرت جفوني أم تباعد بينها *** أم صُوّرتْ عيني بلا أشفار
جَفَتِ الكرى حتى كأن غِرَاره *** عند اغتماض العين وخزُ غِرار
ولو استزارت رقدةً لَطحا بها *** ما بين أجفاني من التيار
أُحيي الليالي التُّمِّ وهي تُميتني *** ويُميتهن تبلّجُ الأسحار
حتى رأيت الصبح تهتِك كفُّه *** بالضوء رفرف خيمة كالقار
والصبح قد غمر النجوم كأنه *** سيل طغى فطفا على النّوار
لو كنتَ تُمنعُ خاض دونك فتيةٌ *** منا بحارَ عوامل وشِفار
ودَحَوا فُويقَ الأرض أرضاً من دم *** ثم انثنوا فبنوا سماء غبار
قومٌ إذا لبسوا الدروع حسبتها *** خلجا تَمُدُّ بها أكُفَّ بحار
لو شرّعوا أيمانهم في طولها *** طعنوا بها عِوضَ القنا الخطّار
جنبوا الجياد إلى المطى وراوحوا *** بين السُّروج هناك والأكوار
وكأنما ملؤوا عياب دروعهم *** وغمود أنصلهم سراب قفار
وكأنما صَنِعُ السوابغ عَزّه *** ماءُ الحديد فصاغ ماء قرار
زَرَداً فأحكم كل موصِل حلقةٍ *** بحبابة في موضع المسمار
فتسربلوا بمتون ماء جامد *** وتقنعوا بحباب ماء جار
أُسْدٌ ولكن يؤثرون بزادهم ***والأسد ليس تدين بالإيثار
يتزين النادي بحسن وجوههم *** كتزين الهالات بالأقمار
يتعطفون على المجاور فيهم ***بالمنفسات تعطف الآظار
من كل من جعل الظُبى أنصاره *** وكَرُمْنَ واستغنى عن الأنصار
وإذا هو اعتقل القناة حسبتها ***صِلاً تأبطه هزبر ضار
والليث إن ثاورته لم يعتمد ***إلا على الأنياب والأظفار
زَرَدُ الدلاص من الطعان يريحه *** في الجحفل المتضايق الجرار
ما بين ثوب بالدماء مُضمّخٍ *** زَلِقٍ ونقعٍ بالطراد مثار
والهون في ظل الهوينا كامن *** وجلالة الأخطار في الإخطار
تندى أسِرّةُ وجهه ويمينه *** في حالة الإعسار والإيسار
ويمدُّ نحو المكرمات أناملاً *** للرزق في أثنائهن مجار
يحوي المعالي كاسباً أو غالباً ***أبداً يُدارَى دونها ويُداري
قد لاح في ليل الشباب كواكب *** إن أُمهلت آلت إلى الإسفار
وتَلَهُّبُ الأحشاء شيَّبَ مفرقي *** هذا الضياء شواظ تلك النار
شاب القذال وكل غصن صائر ***فينانُه الأحوى إلى الإزهار
والشبه منجذب فلم بيض الدمى ***عن بيض مفرقه ذوات نفار
وتود لو جعلت سواد قلوبها *** وسواد أعينها خضاب عذار
لا تنفر الظبيات عنه فقد رأت *** كيف اختلاف النبت في الأطوار
شيئان ينقشعان أول وهلة *** ظل الشباب وخلة الأشرار
لا حبذا الشيب الوفي وحبذا *** ظل الشباب الخائن الغدار
وطري من الدنيا الشباب وروقه *** فإذا انقضى فقد انقضت أو طاري
قصرت مسافته وما حسناته ***عندي ولا آلاؤه بقصار
نزداد همّاً كلما ازددنا غنى *** والفقر كلُّ الفقر في الأكثار
ما زاد فوقَ الزاد خُلِّفَ ضائعاً *** في حادث أو وارث أو عار
إني لأرحم حاسديّ لحرّما *** ضمنت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم *** في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رُمت كتم فضائلي*** فكأنما بَرقعتُ وجه نهار
وسترتها بتواضعي فتطلّعت ***أعناقها تعلو على الأستار
ومن الرجال معالمٌ ومجاهل *** ومن النجوم غوامضٌ ودراري
والناس مشتبهون في إيرادهم *** وتفاضلُ الأقوام في الإصدار
عمري لقد أوطأتهم طرق العلا *** فعموا فلم يقفوا على آثاري
لو أبصروا بقلوبهم لاستبصروا *** وعمى البصائر من عمى الأبصار
هلّا سعوا سعي الكرام فأدركوا *** أو سلّموا لمواقع الأقدار
وفشت خيانات الثقات وغيرهم ***حتى اتّهمنا رؤية الأبصار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل ***لا خير في يمنى بغير يسار

أبو الحسن علي بن محمد بن فهد التهامي
التعريف بالشاعر:
هو أبوالحسن علي بن محمد بن فهد التهامي من كبار شعراء العرب، نعته الذهبي بشاعر وقته. نشأ "أبو الحسن علي بن محمد التهامي" في عصر كانت الدولة العباسية تتنازعها عوامل الانحلال، فكانت دار الخلافة في بغداد تحت نفوذ بني بويه وحمدان وطفج وغيرهم من الأمراء المستقلين بأجزاء الخلافة، ولم يبق للخلافة من رونق وكثر الأدعياء، والثائرون حتى عمت الفوضى السياسية. في هذه الفترة المضطربة نشأ أبو الحسن التهامي في تهامة المخلاف السليماني ( جازان ) كان في بداية حياته كما يقول الباخرزي في كتابه "دمية القصر": من السوقة، وُلِّي خطابة الرملة، ثم انقطع إلى بني الجراح حكام المخلاف آنذاكـ يمتدحهم، ويستضيء بهم ويقتدحهم، وكانت له همة في معالي الأمور تسول له رئاسة الجمهور، فقصد مصر واستدل على أموالها، وملك أزمة أعمالها،انتحل مذهب الاعتزال، وسكن الشام مدة، ثم قصد العراق والتقى الصاحب ابن عباد، وعاد فتقلد الخطابة بجامع الرملة، واتصل بالوزير المغربي فكان من أعوانه في ثورته على الحاكم الفاطمي، قال الباخرزي: (وقصد مصر واستولى على أموالها، وملك أزمة أعمالها، ثم غدر به بعض أصحابه فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي حتى مضى لسبيله). ونقل ابن خلكان عن كتاب مجهول في يوميات مصر خبر مقتله في في دار البنود بمصر، وكان يسجن فيها من يراد قتله، وذلك يوم 9 جمادى الأولى 416هـ. حيث قيل أنه غدر به بعض أصحابه ومعه كتب من حسان بن مفرج الطائي إلى بني قرة، فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي سنة 416هـ، ثم قُتِلَ سراًّ وأُعْدِمَ شنْقاًفي سجنه في تاسع جمادى الأول من السنة المذكورة". وفي (نضرة الإغريض) نوادر من أخباره، منها أن حسان الطائي أقطعه حماة لقصيدة قالها في مدحه. ولم يثبت ابن خلكان قصيدته المشهورة (حكم المنية في البرية جار) لأنها كما قال من القصائد المحدودة. قلت: والقصائد المحودة هي التي تصيب حافظها بالسبب الذي كتبت لأجله.أهمله التاريخ ولم يكتب عنه كثيرا.

وأما شعره فللنقاد القدماء آراء عديدة تدل جميعها على براعته في الشعر وجودة المعاني التي أتى بها, ومن جملة هذه الآراء قول ابن بسام الأندلسي في كتابه الذخيرة: كان مشتهر الإحسان، ذرب اللسان، مخلياً بينه وبين ضروب البيان، يدل شعره على فوز القدح، ودلالة برد النسيم على الصبح...". ويتسم شعر التهامي بالسهولة، وهو طوع لإرادة الشاعر برسله على سجيته فيأتي بكثير من المعاني الطريفة والصور البديعة، وأغلب شعر التهامي يندرج تحت لونين هامين من الموضوعات هما: المديح والرثاء، وإن جاء الغزل كثيراً فهو يجيء كمقدمات للمديح. أما المديح فهو يستنفذ أكثر شعره، وهو فيه طويل النفس، يسترسل في بدايته في التغزل بالمحبوبة واصفاً محاسنها، فإذا هي تشرق وفي وجهها عشروق ضوء الصباح. وأما الطبيعة التي فيها يكون اللقاء بينهما، فهي في غاية الجمال والرونق... ثم يصل إلى وصف الممدوح فيلقي عليه من النعوت والأوصاف التي تتناسب مع مقام كل ممدوح، فهو إما أن يكون شخصية لا يرقي إليه المدح لكرمه وشجاعته، أو معتصراً للمجد لا يتركه ينتقل إلى أحد سواه، فهو فريد زمانه، أو هو ملك يروقك منظره، ومندهش لكثرة المزايا التي يتحلى بها.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق